�
قراءة في تاريخ وهوية الأردنيين
�
توجان فيصل
�
هناك حديث ملتبس المعنى عن "الهوية الأردنية" وضرورة الحفاظ عليها من خطر يلّمح إلى أنه يهددها من قبل الأردنيين من أصول فلسطينية. وهو ما يستدعي منا ابتداء التوقف, وبطريقة علمية وتاريخية عند "هويتنا" الحقيقة قبل الانتقال للحديث عما يغلفه هذا الطرح المستجد.المفروض, لبيان التمايز بين الهويتين أن نعود للأردن ما قبل قيام الإمارة عام 1921, لننظر كيف كانت هويته. والهوية هنا لها شقان, الشق السياسي والشق الاجتماعي. وهما يتداخلان لحد ما. السمة الغالبة على الأردنيين في العقد الثاني من القرن الماضي كانت البداوة , تليها الفلاحة ثم قلة من الحضر في البلدات الرئيسة.التركيبة الأردنية هي ذات تركيبة المجتمع الفلسطيني مع اختلاف النسب حيث طغت نسب الحضر والفلاحين على أقلية بدوية, وهذه الفروق لم تكن تحدث فارقا بينيا يؤثر بشكل كبير في التوجهات السياسية للأردنيينوهي ذات تركيبة المجتمع الفلسطيني مع اختلاف النسب حيث طغت نسب الحضر والفلاحين على أقلية بدوية. وهذه الفروق لم تكن تحدث فارقا بينيا يؤثر بشكل كبير في التوجهات السياسية للأردنيين. فإذا تجاوزنا أدبيات المرحلة التي وثقت للنخب الحضرية العربية كلها وبينت توافق سياساتها وتطلعاتها, فإن التقارير البريطانية الصادرة من المنطقة كانت تشير إلى كون فلاحي الأردن, لتقاربهم الشديد مع فلاحي فلسطين, يشكلون, تجمعات شعبية داعمة بالسلاح والمال والعون اللوجستي للمناضلين الفلسطينيين ضد الاستيطان الصهيوني, بل ويشكلون مخزونا من المتطوعين للقتال وكل أشكال المقاومة.والأقدم من هذا هو تاريخ نضال العشائر الأردنية ضد الحكم العثماني, وحقيقة أن زعماءها كانوا ينسقون مع الثوار العرب في دمشق تحديدا كونها مركزا رئيسيا على الخط الواصل بتركيا, وكون ما ثار الكل عليه لم يكن فقط الظلم الذي وسم حكم العثمانيين بل واستهدافهم "للهوية العربية" إضافة لرفض العشائر للتجنيد في صفوف الجيش العثماني مقابل تطوعهم لاحقا للقتال إلى جانب المناضلين الفلسطينيين. وهذا يؤشر بمجمله على "هوية قومية عربية" ترجمت في اصطفافات سياسية بل وقتالية انتظمت في صفوفها قطاعات شعبية أردنية لم تكن حتى من النخب التي انضمت للأحزاب القومية العابرة للحدود, أو حتى سمعت بها.ولكن سمة البداوة -خاصة طرائق معيشة الجزء الرعوي المتنقل وليس المتوطنين داخل أو حول البلدات الرئيسة- هي التي لفتت نظر الرائي من الخارج. ومنهم العالم الاجتماعي دانيال ليرنر عندما زار الأردن عام 1952, أي بعد النكبة وتوافد أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين على الأردن. وكتب حينها فصلا عن الأردن في أحد كتبه بعنوان "دولة بشعبين".وفيه توصل إلى أن الفروق التي لمسها تجعل الانسجام والتمازج بين الشعبين مستحيلة. ولكنه عندما عاد بعد ربع قرن فقط في العام 1977, كنت ضمن مجموعة من الإعلاميين التقاهم (أذكر منهم السيد نصوح المجالي مدير الإذاعة حينها والراحل الكبير الأستاذ جورج حداد مدير الأخبار في التلفزيون) كان يستفسر باستغراب عما يسر هذا التمازج لحد ضياع الفروق. ولم اقرأ ما نشره ليرنر بعدها, ولكنه قال لنا إنه سيكتب هذه المرة تحت عنوان "شعب بدولتين" في إشارة لوقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي.والآن, وبعد فورة التعليم الأعلى في الأردن بعد فلسطين على قائمة الدول العربية, وهو تعليم مصادره المتاحة للشعبين هي نفسها عربيا وعالميا, وفي عصر الفضائيات والإنترنت والمدن ذات المباني الشققية الشاهقة الارتفاع والتي تفرض الجوار اللصيق على كل الساكنين بحكم التساوي الطبقي لتقارب الدخول وليس الأصول. وبعد أن انتشر التزاوج بين الفئتين, وحدوثه بهذا الكم هو بحد ذاته دليل تقارب اجتماعي, بحيث أصبح أكثر من ثلث سكان البلاد من نسل خليط استحدثت له تسمية "أردوسطيني" في رفض التخندق المفتعل الذي يناقض حتى حقائق البيولوجيا. بعد كل هذا يصعب الحديث عن وجود فروق "هوية" تذكر بين أصحاب الأصول المختلفة من الأردنيين. وإذا كانت هنالك فروق في التوجهات السياسية ناتجة عن الوعي (أو تغييب الوعي) فإن كل تلك الاصطفافات, من أقصى يمينها لأقصى يسارها, باتت عابرة لكل الحدود القطرية العربية أكثر بكثير من ذي قبل.إذا كنا نبحث في "الهوية السياسية للأردنيين" فإننا نكون نبحث في هوية سكان شرق الأردن الأصليين أصحاب الأرض في أواخر العهد العثماني على الأقل, كون ذلك أقدم معيار معتمد في أول قانون أردني نظم الجنسيةومع ذلك, فإننا إذا كنا نبحث في "الهوية السياسية للأردنيين" فإننا نكون نبحث في هوية سكان شرق الأردن الأصليين أصحاب الأرض في أواخر العهد العثماني على الأقل كون ذلك أقدم معيار معتمد في أول قانون أردني نظم الجنسية. وصولا للحظة التاريخية الفاصلة المتمثلة بقيام إمارة شرق الأردن التي لا جدال أنها كانت اللحظة الأنسب للتعبير عن تلك الهوية. مرورا بما جرى لحين قيام الوحدة مع الضفة الغربية.التوجه العام منذ البداية كان توجها قوميا ديمقراطيا يطالب بالاستقلال والحكم النيابي. وقد شارك ممثلون عن الأردن في المؤتمر السوري العام الذي عقد في دمشق في الفترة من السادس وحتى الثامن من مارس/آذار 1920 والذي أهم قراراته استقلال البلاد السورية بحدودها الطبيعية, على الأساس المدني النيابي, وحفظ حقوق الأقلية "ورفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود أو محل هجرة لهم".وشكلت تجربة المملكة السورية العربية التي أعلنت في اليوم الأخير من ذلك المؤتمر, والتي أهم ما بقي منها بعد نهايتها السريعة, هو دستورها الذي نص على فصل السلطات الثلاث, واستقلال القضاء وكون السلطة التشريعية منتخبة بكاملها, واحترام الحريات الفردية والعامة. هذه التجربة وجدت صدى في نفوس الأردنيين وشكلت مثالا يحتذى ومطلبا بدؤوا -وما زالوا- يلحون في تحقيقه في كافة تحركاتهم السياسية منذ قيام إمارة شرق الأردن في أبريل/نيسان عام 1921.أول حكومة تشكلت مع قيام الإمارة كانت برئاسة رشيد طليّع, وهو لبناني درزي من مؤسسي حزب الاستقلال السوري. وشارك في إدارات البلاد بعض قادة حزب الاستقلال العربي وقادة حزب العهد العربي, ومعظمهم من أبناء سوريا ولبنان وفلسطين. "غير أن قادة حزب الاستقلال ما لبثوا أن اصطدموا مع سلطات الانتداب البريطانية التي مارست ضغوطا على الأمير عبد الله بن الحسين, للتخلص منهم وتطهير أجهزة الدولة منهم. وتم ذلك سنة 1934". (د. علي محافظة: الفكر السياسي في الأردن 1916-1946. مركز الكتب الأردني. عمان 1990).ولكون الحكومة البريطانية اشترطت ابتداء على الدولة الأردنية الذي شاركت في إنشائها أن تكون حكومتها "دستورية" لأسباب عملية في مقدمتها ضبط الأمور المالية عن طريق رقابة تشريعية فعالة, وأيضا نتيجة لتصاعد مطالبات الأردنيين فور قيام الإمارة بحكومة دستورية.فقد شكل الأمير عبد الله لجنة أهلية في 9/7/1923 لوضع قانون للمجلس النيابي المنوي انتخابه. وقد ساهم تمرد الشيخ سلطان العدوان المطالب بتشكيل حكومة دستورية وانتخاب مجلس تشريعي (تم التصدي له بمشاركة القوات البريطانية) في دفع اللجنة إلى الإسراع في صياغة مشروع قانون الانتخاب. ولكن صدور القانون لم يتبعه إجراء انتخابات نيابية "بل بقي حبرا على ورق, وكان صدوره مجرد تلهية للذين يطالبون بالحياة النيابية" حسب د.محافظة (المصدر السابق).شكل الأمير عبد الله لجنة أهلية في 9/7/1923 لوضع قانون للمجلس النيابي المنوي انتخابه. ولكن صدور القانون لم يتبعه إجراء انتخابات نيابية "بل بقي حبرا على ورق, وكان صدوره مجرد تلهية للذين يطالبون بالحياة النيابية"أما القانون الأساسي (الدستور الأول) فقد وضع بعد أربعة شهور من صدور قانون الانتخاب عبر لجنة أخرى كانت قد تشكلت قبل عام كامل. وجاء متأثرا لحد بعيد بدستور سوريا لعام 1920, دستورا عصريا يتضمن المبادئ الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان والتوازن بين السلطات والفصل بينها. ومن بعده تم إعداد قوائم الناخبين وأنجزت في يونيو/حزيران 1924.ومع ذلك لم تجر أية انتخابات ولا طبق الدستور (القانون الأساسي) الذي -وهنا الغرابة- كان الإنجليز لحينه يضغطون باتجاه تطبيقه وإجراء الانتخابات التشريعية لتؤول محاسبة الحكومة لمجلس نيابي منتخب. وإصرار بريطانيا على هذا أنتج أزمة بين المعتمد البريطاني جون فيلبي والأمير عبد الله الذي كان يرى في هذا تقليصا لصلاحياته. والمحصلة كانت حكومة جديدة أعلن رئيسها أن من برنامج حكومته "السعي لانتخاب مجلس نيابي لتدريب الأمة على الحكم الدستوري" ولكن تعامله مع مطالبات شيوخ العشائر والشباب المتنورين بتطبيق القانون الأساسي وانتخاب مجلس نيابي, تجلى في إخراج موقعي العرائض من العاصمة الأردنية ووضعهم تحت الإقامة الجبرية والرقابة المشددة في القرى التي أتوا منها (المصدر السابق).ثم توالت القوانين القمعية من مثل قانون منع الجرائم الذي -كنسخته الحديثة- يحاسب على نوايا مفترضة. وقوانين مطبوعات كالتي ظلت تصدر تباعا وليومنا هذا, تعاقب بالسجن وبغرامات باهظة أو بكليهما. والهدف هو أن لا تؤول صلاحيات محاسبة الحكومة لمجلس منتخب. وهو ما عادت بريطانيا وتواطأت فيه على الشعب الأردني بأن قفزت عن الصيغة الديمقراطية التقدمية لقانون عام 1924, وفرضت سلطة الانتداب قانونا آخر لا علاقة له بالديمقراطية بأكثر من مزج جزء صغير منتخب في جسم معين, ليقال إنه سلطة تشريعية شعبية!!.وكان إعلان القانون الأساسي الجديد قبل شهرين فقط من إقرار الاتفاقية الأردنية البريطانية. ثم وللوفاء "شكليا " باشتراط بريطانيا السابق للدستورية , تحول هذا القانون إلى "دستور" عام 1946, بعد إعلان الأردن مملكة.وما فعله إخوتنا الفلسطينيون عند توحيد الضفتين عام 194, وهم الذين كان تنشر في صحفهم بيانات ومقالات المعارضة المطالبة بالديمقراطية وحتى رسائلهم أو مناشداتهم للأمير. أن اشترطوا لقبول الوحدة, تحديدا أن تؤول محاسبة الحكومة والرقابة على المال العام لمجلس النواب. ومقابل ذلك رضوا أن تكون حصتهم مناصفة في عدد مقاعد مجلس النواب بالرغم من أن عدد سكان الضفة الغربية فاق عدد "الشرق أردنيين" بما يقارب الضعف حينها. وهو شرط قبل به الملك عبد الله الأول (روبرت ساتلوف: من عبد الله إلى حسين. مطبوعات جامعة أكسفورد. نيويورك 1994).وفي بداية انعقاد أول مجلس نواب ممثل للضفتين جرى الضغط على المجلس للمصادقة على قرار الوحدة دون مناقشة تذكر. ولكن بعد ذلك, برزت ممارسات هذه السلطة الديمقراطية الحضارية للشعب الجديد, دون أن يتبدى أي انشقاق أو حتى خلاف بين مكوناته يتأتى من "الأصول والمنابت" مما أهله لتحقيق أغلبية رفضت مشروع قانون الموازنة الأولى الشاملة للضفتين بعد الوحدة, وردته للحكومة في مايو/أيار1951. فجرى حل البرلمان الأول الممثل للضفتين. (ساتلوف�المصدر السابق).إلا أنه بعد سلسلة تداعيات أبرزها اغتيال الملك عبد الله الأول في يوليو/تموز 1951 وتولي الملك طلال الحكم, أقر الدستور الحالي في العام 1952, وهو دستور يمثل حالة متقدمة جدا من الديمقراطية, إذ جرى تحاشي كل مثالب دستور عام 46 ورسخ حكم الشعب النيابي ضمن ملكية دستورية أخذت عن الدستور البلجيكي, وتحديدا عن تطبيقه العرفي -غير المكتوب- في بريطانيا.الحديث الجاري عن تهديدات "للهوية" الأردنية نتيجة إعادة الجنسية لبضعة آلاف ممن حملوها لعقود, هو غير صحيح وليس فقط غير دقيق أو مبالغ فيه. وهو تفاد لحديث عن المشكلة الحقيقة يصل حد الإنكار, وهي مشكلة يجري ترحيلها هذا الدستور لم يضع أسس دولة المواطنة الحديثة, فذاك يعود لنضال الأردنيين منذ العام 1921, ولكنه أعاد تكريسها بفضل المواطنين الجدد بصورة تضمن السلم الأهلي لو استمر تطبيقه, حيث لا مجال لأن تصبح الأصول والمنابت مادة لأي مشكلة أو سببا لأي تفرقة, كونه نص على أن المواطنين متساوون أمام القانون. وهو ما استمر حتى الانقلاب الرسمي عليه (ساتلوف-المصدر نفسه) والذي جاء بعد خمس سنوات فقط من تطبيقه, وحل المجلس المنتخب وإعلان الأحكام العرفية التي استمرت للعام 1993, أي لما بعد ما سمي "بعودة الديمقراطية" إثر الانتفاضة الشعبية في العام 1989.وهو الدستور الذي تجمع كل القوى الوطنية الأردنية الآن على ضرورة العودة له بعد تخليصه من كل التعديلات التي أدخلت عليه في الفترة العرفية. أي أن هذا الدستور المشترك, ما زال يمثل الهوية السياسية, وحتى الاجتماعية الأردنية.المواطنون الجدد من أصول فلسطينية, هم ليسوا اللاجئين فقط كما تنقل الصورة النمطية التي روجت لها جهات رسمية في عقود ما قبل فورة الإعلام, لاجتذاب مساعدات دولية أو تبرير قصور إداري أو حتى فساد مالي يعيق التنمية. تماما كما روجت لصورة الأردني بأنه بدوي يركب الجمل, لأغراض سياسية أيضا وليس فقط سياحية, لدرجة أن زوار الأردن لحين سبعينيات أو حتى ثمانينيات القرن الماضي, كانوا يتوقعون أن يشاهدوا الجمال تتنقل براكبيها فور وصولهم.ومثله الحديث الجاري عن تهديدات "للهوية" الأردنية نتيجة إعادة الجنسية لبضعة آلاف ممن حملوها لعقود, فهو غير صحيح وليس فقط غير دقيق أو مبالغ فيه. هو تفاد لحديث عن المشكلة الحقيقة يصل حد الإنكار, وهي مشكلة يجري ترحيلها لنا ونصر بهذا القول, وغيره على تبني منشئها بما لا يقل عن القول إنها نابعة من "هويتنا ". ولهذا حديث آخر لا يتسع له هذا المقال.
�
��� 8/9/2009�
�
عودة للهوية الأردنية
�
توجان فيصل
�
مقالتي هذه لا تنفصل عن مقالتي السابقة "قراءة في تاريخ وهوية الأردنيين" بل إن تلك المقالة كانت مقدمة لهذه. وقد اهتممت بالتعليقات الواردة عليها, وأهمها أن بعض الذين استاؤوا من إيراد حقائق موثقة تاريخيا حاولوا الإيحاء بأنها غير لازمة أساسا وأن المقالة لم تأت بجديد.فهؤلاء كرسوا غرضي من المقالة, لكونهم بهذا أقروا بصحة ما خلصت له من أن هوية الشعب الأردني السياسية كانت منذ ما قبل نشوء الإمارة "هوية قومية تصر على الاستقلال عن أي نفوذ أجنبي وتتمثل الوطن والوطنية بصيغة واحدة لا بديل لها هي دولة المواطنة الديمقراطية النيابية".في هذه المقالة سنتوقف تحديدا عند ما طرحه بعض من يتحدثون باسم "الوطنية الأردنية", في إشاراتهم المبهمة إلى هوية أردنية يقولون إنهم حريصون عليها دون التعرض لكون كافة مواقع القرار سقطت منذ أمد, بالتعيين والتزوير, في يد دوائر أسرية ضيقة ويجري توريث مقاعدها ومكاسبها للأبناء والأصهار في حلقة أصبحت مغلقة ليس فيها من يمثل الشعب الأردني.معيار "الأردنة" تحقق للمجلس النيابي الحالي عمليا منذ ما سُمِّي بعودة الديمقراطية, إذ أصبح ما يقارب ثلاثة أرباع المجلس من "الشرق أردنيين", مع أنه مجلس يفترض أن يمثل شعبا أكثر من نصفه من أصول فلسطينيةالمتمعن في شخوص تلك الحلقة يجد أنها تدور, تاريخيا, في فلك اتفاقية وادي عربة, وما مهد لها من مفاوضات علنية وسرية, وما نتج عن كسر المحرمات التاريخية بزعم مكاسب مالية من خلط "البزنس" بالسياسة بشكل صارخ مؤخرا.. مما انتهى إلى "خصخصة وطن".مجالس نوابنا الأخيرة, وتحديدا مجلس نوابنا الحالي يفترض أن يقف مثالا على أحد نجاحات "الوطنية الأردنية" في "أردنة" مؤسسة حكم رئيسة. ولكن يصعب القول إن أي جزء من ذلك النجاح صب في صالح تلك "الوطنية الأردنية"، بل على العكس انعكس عليها سلبا. فتلك المجموعة التي تقدم نفسها على أنها من المعارضة تكون بطرحها هذا وفرت غطاء من شرعية شعبية لتكريس نهج الإقصاء والمحاصّة الرسمي الذي تولته بكامله الحكومات, مدعومة بأجهزة أمن دورها التاريخي في عملية الانتخابات معروف, وصولا لتحديد آخر فرد يقصى أو يقرب بأن يعطى حصة في المجلس التشريعي أو الحكومة أو غيرها من الوظائف التي امتد تعريفها ليشمل المجالس البلدية وحتى ترؤس هيئات أهلية.ومعيار "الأردنة" تحقق للمجلس النيابي عمليا منذ ما سُمِّي بعودة الديمقراطية, إذ أصبح ما يقارب ثلاثة أرباع المجلس من "الشرق أردنيين", مع أنه مجلس يفترض أن يمثل شعبا أكثر من نصفه من أصول فلسطينية. وتحديد ما يراوح بين الربع والثلث للمنحدرين من أصول فلسطينية تتولاه الجهات التي تفرز تلك المجالس, وهي غير الشعب, لكون تلك الجهات تحتاج لوجود مشاركة فلسطينية في التصفيات الجارية للقضية الفلسطينية باسم المسار السلمي والمفاوضات. ويمكن بسهولة قراءة معايير انتقاء تلك "الكوتا" المتذبذبة, للمواقع النيابية وللمواقع الوزارية, من إصرار حكوماتنا الأخير على التنسيق حصريا مع أبي مازن وسلطته التي لا سلطة لها.. أي أنهم من لون محدد, وكلهم بلا سلطة.والحال الذي بلغه المجلس الحالي الذي -حتما- "هويته" لم تعد فلسطينية, يظهر من اضطرار نصف أعضائه مؤخرا إلى أن يعترفوا بسقوط هيبة المجلس, وبالذات لأنهم جلسوا أو أجلسوا عاجزين عن الرد على الكنيست حين ناقش قانون "الداد" في الكنيست، القانون الذي يقول إن "هذا هو الوقت المناسب لإقامة إسرائيل على الضفة الشرقية من نهر الأردن". ومعروف أن النخوة لا تأتي متأخرة, بل إن كل قوانين العالم تخفف من عقوبة جرائم تصل حد القتل إن جرت لحظيا لكون البشر معرضون لفورة دم.. ولا يوجد قانون يعترف بفورة دم تأتي بعد أشهر من حسابات الربح والخسارة.ما يحاوله هؤلاء النواب الآن هو إجراء عملية تجميل لوجوههم أمام قواعدهم التي نعتتهم بكل ما في قواميس كافة اللهجات المحلية من كل الأصول والمنابت. ولذلك فما قام النواب بفرزه باعتباره الأولى بالإصلاح في صورة مجلس كلها مشوهة, هو رئيس المجلس الذي يتعامل معه وكأنه "وسيّة" سيقت له بمن عليها, مكافأة على تواطؤ أسرته في"وادي عربة". ولكن الشارع بأغلبيته الساحقة غير مؤمن بالبدائل المطروحة أيضا, ويراها تغييرا في الوجوه دون النهج وتنافسا على مكتسبات المنصب غير المشروعة والمتضخمة.لهذا فالشارع غير مقتنع بجدية السعي للتغيير ويعتقد أنها مناورة إحلالية لبعض الوجوه وتحسين فرص بعض آخر في التفاوض بما يرفع ثمن التصويت. والشعب محق في هذا فتاريخ ما يسمى مجالس نوابنا في العقد الأخير وصل حد أن يعلن رئيس حكومة مكلف في ذات صحافتنا أنه "لن يدفع" مقابل التصويت له بالثقة, في اعتراف علني مكتوب بما كان معترفا به من قبل شفاهة ومعروفا ضمنا للجميع من أن من سبقوه دفعوا.. ولكنه عاد ودفع!!الحديث ليس عن "هوية أردنية" تتناقض مع "هوية فلسطينية", وليس حتما عن هوية الحكم بمعنى "سويته", بل هي عن هوية من يحتكرون حلقة الحكم, وما يتم السعي له الآن ليس أكثر من تكريس حالة لا تجد أي قبول من الشعب.الحديث إذًا ليس عن "هوية أردنية " تتناقض مع "هوية فلسطينية", وليس حتما عن هوية الحكم بمعنى "سويته", بل هي عن هوية من يحتكرون حلقة الحكم. وما يتم السعي له الآن ليس أكثر من تكريس حالة لا تجد أي قبول من الشعب, لضمان استمرارها في ظل أية تسوية تجري. ومن أهم مخاطر هذه المحاصّة الاستباقية أنها لم تعد معنية حقيقة "بأية تسوية تجري", وهو ما سنأتي إليه.ولكننا بداية سنعرض للسوية التي مثلتها "الهوية الأردنية" الأصل, للمقارنة. فأول تجسيد لهوية الشعبين المشتركة بعد الوحدة, جاء في صيغة مجلس نواب يفخر الجميع أردنيون وفلسطينيون بأدائه. فالمجلس الذي جمع نوابا يمثلون مناصفة فلسطين بكل ما كان يمور فيها آنذاك من قضايا سياسية وقضايا معيشية خدمية ملحة, والأردن بكل ما يتطلع إليه أهله سياسيا وما يفتقرون لأدنى حدوده خدميا, لم يجر فيه لا قبض ولا وهب, ولا تراشق نوابه بالأصول والمنابت والمتكآت وكاسات الماء والملوخية وتهم بيع أراضي فلسطين والأردن, ولم يصلوا حد رفع المسدسات على بعضهم وعض بعضهم, ثم شتم وضرب الصحافة لأنها تعكس صورتهم تلك.. فصورة ذلك المجلس كانت مشرفة من أية زاوية التقطت.وقد انعكست على الشارع السياسي وغير السياسي. وحتى الملاعب والمدارس التي كان "تلاميذها" مسيّسين بأكثر مما نرى بين "طلاب" جامعاتنا الآن, لم نكن نجد فيها أية قسمة فئوية ولا أي عنف أو إسفاف. ففي دولة المواطنة والقانون وحكم الشعب النيابي الدستوري, لا خوف من تطورات كارثية للخلافات الصغيرة التي تحدث في الملاعب أو بين طلبة.. إذ ليس هنالك داع لافتعال معارك في القاعدة لقبض أثمانها في المواقع العليا.بل إن ذلك المجلس الموحد في حماية مال الشعب وممارسة سلطته في محاسبة الحكم رفض بكل وقار وبعد نقاش من "سوية" عالية, إقرار مشروع الموازنة كما أحالته إليه الحكومة. ولهذا جرى حلّه!! ولكن حتى تداعيات حل ذلك المجلس تشكل مفخرة له ولسوية الشعبين الموحدين حينها, لكونها أنتجت دستور عام 52 الذي عاد وكرس هوية الشعبين الموحدة في وثيقة تاريخية قد يكون أمكن القفز عنها بطرق غير مشروعة, ولكنها وثيقة بقيت تكبر في نظر ووجدان الشعب بحيث انضم للمطالبة بالعودة لها قطاعات سياسية واسعة كانت تاريخيا ولعهد قريب تكفّر القول بالدستورية والديمقراطية.. وكون العودة لحكم الدستور هو أيضا مطلب رئيس للجماعة التي اختارت اسم "الوطنية الأردنية " للدفاع عن الأردن في وجه مخطط الوطن البديل, يؤشر في حد ذاته على تناقضات وقعت فيها تلك الجماعة, ربما "بفورة دم" نتيجة ما يحصل، وهو ما يستوجب العذر, ولكنه لا يغني عن التصحيح.ومن تلك التناقضات رفض هؤلاء الحديث عن وجود حقوق منقوصة لقطاع من الشعب, متسلحين بتبوؤ بعض من هم من أصول فلسطينية لمناصب قيادية. وفي هذا نعيد القارئ إلى أصول الحالة. فعندما جرى القفز عن حقوق الأردنيين في انتخاب ممثليهم وحكوماتهم, جرى التمهيد لقبول الوضع بتقريب انتقائي لزعامات شرق أردنية وتصنيفهم باعتبارهم قوى موالاة في مواجهة ذوي الأصول الفلسطينية الذين اعتبروا قوى معارضة.ومجرد قبول البعض بالقفز عن منظومة "الحقوق" واستبدال منظومة "عطايا" انتقائية بها, مكن من إعادة رسم خارطة الزعامات الأردنية ذاتها.. وفي الطريق إلى هذا جرت التضحية ببعض الزعامات الحقيقة الراشدة لصالح أخرى مستحدثة.. تماما كما تم تقريب أو تنصيب زعامات فلسطينية وإن بأعداد أقل, جرى انتقاؤهم من بين من ساعدوا على تمرير قرار وحدة الضفتين, ثم قرار الذهاب لمدريد ثم وادي عربة, توأم أوسلو الذي أوصلنا إلى هذا الحال.. وهو بمجموعه مما يوجب على "الوطنية الأردنية" أن تتوقف هذه المرة عند الأسباب قبل النتائج, لتشخيص المرض وعلاجه وليس التورط بتكريسه عبر ما يظن أنه تخفيف من أعراضه."التوطين المحدود" رؤية تراوح بين وجوب توسيع قاعدة مشاركة الأردنيين من أصول فلسطينية في الوظائف العامة والدرجات العليا, وبين أن يجري القبول بتوطين أعداد معينة من اللاجئين بإعطائهم جوازات سفر أردنية وكافة الحقوق الأخرى باستثناء الحقوق السياسية.فبعض هؤلاء بدؤوا يمهدون ويروجون لنية الأردن القبول "بالتوطين في حدود معينة"، مع أن الأساس هو عدم قبول "التوطين" وعدم قبول "إسقاط حق العودة" من حيث المبدأ, تماما كما يقال عن الخطيئة أو الجريمة, أو "الكفر والخيانة" كما يصف هؤلاء الكتاب أي تنازل عن حق العودة. ومع ذلك هم يعودون للخوض في ترتيبات هذا التوطين وحتى عن دراسات "منشورة وغير منشورة" تتضمن تقديرات لمن سيختارون البقاء في الأردن ويتنازلون عن حق العودة.. ويفوت هؤلاء أن يتبينوا أن المطلوب من الأردن, بداية, هو قبول التنازل عن "مبادئ", يسهل بعده أمر الأعداد والتوصيفات ما بين مهجري لجوء أو نزوح أو إبعاد (أي ترانسفير).والأخطر من هذا يتجلى في تفاصيل رؤية أولئك الكتاب التي يتطوعون بها (وليس فقط تبريرهم لما تنوي الدولة فعله) لكيفية تنفيذ ذلك "التوطين المحدود". وهي رؤية تراوح بين وجوب توسيع قاعدة مشاركة الأردنيين من أصول فلسطينية في الوظائف العامة والدرجات العليا بطريقة تحقق "عدالة أكبر", أي أن هؤلاء فعلا أردنيون ولكن بحقوق منقوصة لن تكتمل تماما، وبين أن يجري القبول بتوطين أعداد معينة من اللاجئين والنازحين (هنا تكون صفة الأردنيين قد نفيت عنهم مع أنهم مواطنون منذ قيام المملكة ويشملهم تعريف دستورها للمواطنة), بإعطائهم جوازات سفر أردنية وكافة الحقوق الأخرى باستثناء الحقوق السياسية. أليست الحقوق السياسة الضمانة الأولى والأخيرة لكافة "الحقوق الأخرى" لأي قطاع من البشر في أية بقعة من العالم؟؟ّّ!!والآن وبعد إعلان نتنياهو الصريح أن لا دولة بل "كيان" بلا سيادة, ولا حق عودة, بل إمعانه في إجراءات عدة توحي بتصاعد التفريغ الجاري للضفة ليلحق به الترانسفير من "الدولة اليهودية", ثم تصريح ليبرمان بأن لا ضرورة لحل القضية الفلسطينية لا الآن ولا لسنوات طويلة قادمة قد تمتد ستين عاما أخرى, أو لقرن آخر لكون عمر المؤامرة الصهيونية فاق قرنًا.. هل يجوز أن يترك من نزعت حقوقهم السياسية وجزء كبير من حقوقهم المدنية والإنسانية بسحب جوازات سفرهم بالتعذر بقرار فك الارتباط, في خانة الـ"بدون" وهم يعيشون داخل الأردن؟؟ما إمكانية تعايش طبقتين (السفلى منهما مرشحة للتزايد عدديا في موجات تهجير يعد لها منذ الآن) بمنظومتين للحقوق, أو ثلاث منظومات لكون بعضهما لن يملك الحق السياسي تحديدا, دون أن تشعل أصغر شرارة فتيل مواجهة تريدها إسرائيل, أو أية جهة عميلة تتكشف أوراقها فتعمد لخلط الأوراق أو تفجير الموقف كله لتتغطى بالمعمعة.. أليس هذا ما حدث في لبنان؟؟والأدهى أن قبولنا بكل هذه المخاطر لن يضع حدا لتدخل إسرائيل فينا, بدليل ما عرضه "الداد" على الكنيست, وبخاصة لكون اتفاقية وادي عربة لم تفد إلا بتوسيع دائرة التدخل في شؤوننا بانتهاك سيادتنا وحدودنا والسطو على ثرواتنا.. والأدهى من ذلك اعتبارنا بوابة لإسرائيل على العالم العربي لإلحاقه بحكمها دونما احتلال -لكونها لا تقدر على كلفة احتلال كيلومتر واحد جديد- بل عبر "التطبيع". وبيريز -الرئيس الإسرائيلي الحالي ومهندس مسيرة واتفاقيات السلام- هو الذي صرح عند حضوره قمة "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاقتصادية" في الدار البيضاء عام 1994 فور توقيع "وادي عربة", القمة التي قصد أن تكون أول دخول علني لإسرائيل للساحة الاقتصادية العربية, بأن "العرب جربوا قيادة مصر لثلاثين عاما, وعليهم الآن أن يجربوا قيادة إسرائيل"!!الشعوب العربية كلها في جانب وقف التعامل مع إسرائيل, بما فيها شعب "الشقيقة الكبرى". أما الشقيقة الكبرى الثانية, السعودية, فلديها فيما يبدو حصافة سياسية تجعلها تدرك أن خطر التطبيع يهدد وجودها بمثل ما بات يهدد به وجودنا. التطبيع هو مطلب إسرائيل الوحيد, ولأغراض الهيمنة على كل مقدرات العالم العربي, مع استمرار العبث بأمنه كي لا يستقر ويتفرغ لبناء ذاته. فإسرائيل كائن طفيلي يموت إن توقف عن العيش على غيره. والحل ليس في فتح أبوابنا لإسرائيل وإغلاق منافذ الحياة عن بعضنا.الحل في وقف كل هذه القسمة, والعودة لهويتنا الأساسية المجسدة في دستورنا الذي يوحد كل قوانا في ظل دولة المواطنة. افعلوا كما يريد ليبرمان أن يفعل.. جمدوها عند النقطة التي تخدمنا ولا تخدمهم, نقطة علاقات ما قبل وادي عربة.والشعوب العربية كلها في جانب وقف التعامل مع إسرائيل, بما فيها شعب "الشقيقة الكبرى".. أما الشقيقة الكبرى الثانية, السعودية, فلديها فيما يبدو حصافة سياسية تجعلها تدرك أن خطر التطبيع ليس لمجرد كونه سلاسل صفقات خاسرة, بل لكونه يهدد وجودها بمثل ما بات يهدد به وجودنا.
�
��� 9/17/2009
|