حكومة قطاع خاص أم نيابية?
رنا صباغ
رغم استمرار الحكومة في تقديم عروض صادقة لنوايا نزاهة الانتخابات التشريعية المقبلة، ودعمها بسلسلة ضمانات إجرائية، يخشى ساسة، ومحللون من تدني نسب المشاركة الشعبية في "العرس الديمقراطي" مع تناسل خيار المقاطعة بقيادة الإسلاميين ما قد يؤثر على مشروعية العملية السياسية، نوعية النواب القادمين ومصداقيتهم. لذا، تقترح هذه الأوساط خيارات جديدة لإنقاذ ماء وجه الأردن في الداخل والخارج بما في ذلك تأجيل الانتخابات للعام المقبل، في إطار خطة زمنية واضحة المراحل، ترفع من مستوى المشاركة الشعبية وتمأسس لمجلس سياسي قادر على إفراز حكومات مدعومة من تكتلاته الرئيسية بدلا من مواصلة آلية تشكيل الحكومات المتعاقبة التي باتت تشكل عبئا على النظام. تتمحور بعض الآراء حول إطلاق عملية تسجيل جديدة للناخبين الذين يحق لهم التصويت على أساس مكان الإقامة (العمل أو السكن) كما هو الحال في الانتخابات البلدية، بدلا من السكن المعتمد حاليا. هكذا إجراء يساعد على رصف لبنات لتأسيس مجتمع مدني فاعل بدلا من إعادة إنتاج مجتمع قائم على الهويات الفرعية والولاءات الضيقة. كما يصب أيضا في تأطير الإصلاحات السياسية وتوفير طرق جديدة لتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار ما يعيد ترميم الثقة بين الحكومة ورجل الشارع. من بين الاقتراحات أيضا سن قانون مؤقت جديد للانتخابات ينتج عن حوار بين الحكومة ومكونات المجتمع كافة، بما فيها أحزاب المعارضة والموالاة، ليحل مكان قانون الدوائر الوهمية المؤقت الذي نسج قبل أربعة شهور وسلق بسرية على يد عدد من الوزراء المحافظين سياسيا قبل إقراره وتوشيحه بالإرادة الملكية السامية. قانون يوسع تقسيمات الدوائر ويفتح الباب أمام إدخال مفهوم صوتين لكل ناخب: للمرشح المفضل -مناطقي، عشائري، حزبي ومستقل يحتلون 90 في المائة من مقاعد المجلس، و10% تذهب للوائح وطن قادرة على جذب أصوات مؤيدين لبرامج اقتصادية، اجتماعية، سياسية تحملها التحالفات والأحزاب لمصلحة الله، الوطن، الملك. بدون هكذا إصلاحات تدريجية ستستمر معاناة الدولة مع المجالس المستقبلية ولن تنجح أي عمليات إصلاح سياسي.تخوفات الساسة وبعض المسؤولين من تدني نسب الاقتراع في انتخابات 2010 تنبع من توقعات بأن يعزف زهاء نصف مليون من أصل 2.6 مليون مواطن مسجل يحق له الانتخاب عن المشاركة في الانتخابات المقررة في 9 تشرين الثاني. هذه التقديرات قائمة على التزام غالبية من صوتوا للإسلاميين في انتخابات 2007 - زهاء 130.000 مواطن بحسب التقديرات- بمقاطعة الاقتراع القادم استجابة لقرار الحركة، وقبول طعون تعترض على تسجيل أكثر من 100.000 شخص على أسس الأصوات المهاجرة وإعادتها إلى دوائرها الأصلية، فضلا عن تغيب بين خمسة إلى عشرة آلاف حاج وحاجة خارج البلاد لأداء مناسك الحج. وفوق ذلك هناك قوى مجتمعية أخرى تتجه للعزوف عن المشاركة على خلفية الإحباط واتساع فجوة الثقة وانعدام الأمل بصدقية الدفع صوب تغيير سياسي تدريجي وحقيقي بعد التزوير الذي شاب انتخابات .2007 تلك التوقعات قد تخفض نسبة الإقبال الفعلية من إجمالي الناخبين المسجلين إلى دون 45 في المائة، مقارنة مع 57.2 % في الانتخابات الأخيرة التي شارك فيها 1.41 مليون مواطن، ما يهز قدرة التمثيل السياسي للمجلس وشرعية نواب سيحتل عدد كبير منهم مقاعد بأصوات قليلة. إذا أمام حكومة سمير الرفاعي تحدي شحذ همم المقترعين وضمان رفع نسب التصويت بحسب قانون مؤقت عماده صوت واحد في دائرة وهمية واحدة لمقعد واحد ركز في جوهره على الإجراءات المرافقة دون المس بجوهر عملية بناء وطني يفترض أن تشكل مدخلا لتشكيل مجلس نواب سياسي يمارس دوره الرقابي والتشريعي. فمهما كانت درجة حرية ونزاهة العملية الانتخابية القادمة حسب الوعود الرسمية، فلن تكون هناك قيمة حقيقية لمجلس النواب القادم. معطوفا على ذلك مظاهر حراك انتخابي باهت بالمقارنة مع مواسم سابقة -- قبل شهرين على موعد إجراء انتخابات تفتح الباب أمام عودة مرشحي الإجماع العشائري والعائلي، أصحاب المال والنفوذ السياسي-الاجتماعي، ووجوه جماهيرية قادرة على جذب المقترعين في مناطق جغرافية مغلقة. هنا يأتي السؤال المليوني الآخر? هل بإمكان الحكومة القيام بهذه المراجعة المطلوبة بما فيها تأجيل الانتخابات لعام آخر وسط أجواء الاحتقان الشعبي الناتج عن سلسلة من إجراءات وسياسات اتخذتها الحكومة منذ جلوسها على مقاعد الدوار الرابع? أم أن المطلوب تأجيل الانتخابات وتشكيل حكومة "أقطاب" تتشارك فيها مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والعشائري تعمل على سن قانون انتخابات مؤقت جديد قادر على إقناع الرأي العام المشكك بجدوى المشاركة والتغيير. بالطبع يظل قرار تغيير الحكومة أمر يعني الملك عبد الله الثاني، الذي يراقب المشهد العام عن كثب هذه الأيام وربما يستمع إلى الشكاوى ويلاحظ ارتفاع منسوب وجدية الحراك المجتمعي الاحتجاجي الذي تقوم به قطاعات خرجت من رحم الدولة من متقاعدين عسكريين، معلمين، قضاة، عمال مياومة وكتاب مستقلين، إذ يلتقي مع شخصيات نخبوية سياسية واقتصادية وأمنية تمثل الرأي والرأي الآخر. فهو الحكم الأول والأخير الذي يمارس سلطاته الدستورية ويقرر التدخل لتصويب الأوضاع، بما فيها قرار إقالة أي حكومة متى استشعر ضرورة لذلك. وهو الذي يتدخل لتعديل المسار بعيدا عن التأزيم بعد أن يشعر أن الأمور على الساحة الداخلية ليست على ما يرام وأن غسيل الأردن بدأ يتكشف للغرب بعد مقالة الواشنطن بوست الأخيرة التي أضاءت عمق تخبط السياسات. النقابات المهنية ال¯ 14 - التي ينتسب إليها زهاء 150 ألف مواطن - انضمت إلى منتقدي السلطة التنفيذية وطالبت بتشكيل حكومة وحدة وطنية. المجلس النيابي القادم لن يختلف عن سابقه، ذلك أن القوى المتحكمة بالناخبين وعملية الاقتراع برمتها لن تتغير كثيرا مع التعديلات الشكلية على قانون الانتخاب المؤقت. لم يسبق لحكومة في السنوات الماضية أن واجهت هذا المستوى من الانتقادات الذي تتعرض له حكومة الرفاعي. ولا يعني هذا بالضرورة أن الحكومات الثلاث السابقة كانت على الأقل أفضل من الحالية. ففي الخطوط العامة لا اختلاف، لكن المشكلة في غياب التواصل والحوار مع القوى السياسية والنخب الإعلامية والحزبية والنقابية والاجتماعية المتنفذّّة. من المهم دخول أجواء الانتخابات، في حال تمت، بالقدر الأدنى من التوتر السياسي والاجتماعي. ترشح معلومات بأن الملك طالب أخيرا باتخاذ سلسلة إجراءات لتنفيس أجواء الاحتقان السياسي، بدأت بقرار تعديل القانون المؤقت لجرائم أنظمة المعلومات بما يتلاءم مع روح الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها الأردن، الإصرار على أن يقدم وزير العمل اعتذارا وجاهيا لمزارعي الأغوار ودعوة وزير العدل هشام التل القضاة قضاة المحاكم النظامية والشرعية والعسكرية لحضور إفطار رمضاني في سنّة جديدة. ويدور الحديث في أروقة الحكم حول ضرورة اتخاذ مبادرات أخرى لإنصاف عمال المياومة والمعلمين بما فيها السماح لهم بتأسيس اتحاد بالاستناد إلى قانون وليس نظام. ومن المتوقع أن يبدأ حوار مدعوم من القصر مع التيار الإسلامي لثنيه عن قرار مقاطعة الانتخابات وتشجيع جميع الأحزاب على خوض التجربة الديمقراطية من خلال إعادة التأكيد على نزاهة الانتخابات وشفافيتها. لكن ساسة وحزبيين يستبعدون حصول ذلك ما لم تقع معجزة مع بدء العد التنازلي للانتخابات. فحتى السفارات الغربية التي لا تدعم سياسات التيار الإسلامي تتساءل عن شرعية العملية السياسية في غياب الإسلاميين، التيار الأوسع نفوذا وقدرة على الحراك على الساحة المحلية. يوم الخميس أعلنت جبهة العمل الإسلامي وحزب الوحدة الشعبية عن آليات عمل مشتركة لتفعيل قرار مقاطعة الانتخابات المقبلة، أبرزها عقد ملتقى وطني يجمع الأطراف الفاعلة المؤيدة لمقاطعة الانتخابات. بعد الانتخابات القادمة، سواء تأجلت للعام المقبل أم أجريت في موعدها، يتساءل ساسة، حزبيون ومراقبون عن إمكانية العودة إلى تشكيل حكومات برلمانية كما كان الحال عليه بين 1989 و،1997 عندما شكّل نواب حكومات مثل طاهر المصري وعبد الكريم الكباريتي قبل أن يقرر الملك الراحل عدم جدوى الجمع بين النيابة ومقاعد الحكومة بسبب سعي بعض الوزراء/النواب إلى استغلال مناصبهم لتوظيف أقربائهم فضلا عن تفعيل مبدأ فصل السلطة التشريعية عن التنفيذية. الملك جرّب سبعة رؤساء وزارات يمثلون غالبية الاتجاهات السياسية بين محافظ تقليدي، يمين اليسار وشبه ليبرالي منذ توليه سلطاته الدستورية عام .1999 غالبيتهم خاضوا معارك مع مجلس النواب و/أو وتعاطوا معه من باب الهدايا والعطايا وسيارات غير مجمركة وتعيينات في جهاز الدولة المترهل لتمرير القوانين الإشكالية ودرء الهجمات تحت القبة. واضطر الملك مرتين لحل مجلس النواب - في حقبتي أبو الراغب (2000-2003) والرفاعي - فانفرد مجلس الوزراء في إقرار 250 قانونا مؤقتا - غالبيتها لدعم "الإصلاحات الاقتصادية" وتأميم الحريات العامة. الآن يرتسم مشهد المجلس القادم على نحو قاتم. مع أن الحكومة أعلنت وقوفها على مسافة واحدة من المرشحين، سيظل المجلس وليد قانون إشكالي، فيما يخرج المربع الأمني من غرفة التحكم بمفاتيح التشريعي. سيتعامل المجلس الجديد مع أي حكومة بالقطعة - "أي حك لي وأنا احك لك". لم يعد هناك أموال داخل وخارج الموازنة لتشتري ولاء النواب بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية. وربما لن يكون مجال المناورة مفتوحا إلا لحكومة تنبثق عن نواب مدعومين بكتل قوية أو مسنودة بتحالفات رئيسية. سيكون من الصعب استدامة أي حكومة يأتي غالبية أعضائها من القطاع الخاص أو من بقايا القطاع العامٍ، ولا تدخل المجلس للحصول على الدعم أثناء مشاورات التشكيل وبعده. السياسيون منقسمون بين داعم ومعارض لتشكيل حكومات برلمانية قوية قادرة على توفير غطاء سياسي لمواصلة تمرير سياسات الإصلاح الإشكالية وضمان سلاسة إبحار الحكومات داخل التشريعي. لكنهم يتوافقون على أن آلية تشكيل الحكومات بحاجة إلى تغيير لكي لا تبدأ المطالبات بتغيير الحكومة بعد انتهاء فترة شهر العسل التي تمتد عادة لستة شهور. وسيحتاج الأردن إلى إعلام غير مرعوب بعيدا عن حضن الحكومة ليساند السلطة التشريعية على أن تلتزم أي حكومة جديدة بكتاب التكليف السامي نصا وروحا وليس من حيث الشكل فقط.فماذا يحمل لنا المستقبل..؟
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
9/5/2010
|