من كتاب الدهس الصادر عام 1982 في الكويت عن دار المشرق والمغرب العربي للنشر والتوزيع:
:مررنا ، راياتنا منكسة ، بحشد من الوقوف مشرعة سيوفهم قلت
آه .. ايما زمن نحن الآن ، وهذه السيوف لما تزل لامعة .. والجباه الشامخة تنز عرقاً ما زال ساخناً ، والفؤوس على الأكتاف مشهرة ! قالوا : " سلاماً " قل ولا تنحني فهذه جموع بابك الخرمي ، وعشرون عاماً من القتال . نززت خجلاً . اسندت ظهري " أيما زمن جعل من قاماتنا انحناء ومن عيوننا استغاثة خرساء " ! قالوا : " سلاماً " قل وادفع بصدرك للامام فالتفت الينا بابك الخرمي : .. أيما أقزام تمر من هنا ؟ وقفنا صاغرين وقلنا : نعلم اننا احفادك الفقراء . اغمض عينيه ، طفح حزناً ، وأشار : مروا سريعا . لا أراني رايت تعب عشرين عاماً وتحولات الزمان . مروا سريعاً أني ارى قامات من ياتون الآن بلا قامات منحنية . فمررنا يتامى ضائعين . نحن من ضيعوا العمر عبيداً . ولم يعرفوا بابك الخرمي . وافسحنا مجالاً للقادمين .
. . .
قمئ قزم عتيق هرول لاحقا بنا . فوقفنا . -من انت ؟ اجاب باستحياء : •ابو العباس احمد بن يحيى .. ( ثم اردف بخجل امرأة ) انا البلاذري .. اضعت العمر ايضاً وكتبت " فتوح البلدان " .. -انت من قال " الكافر الخرمي " ونافق الخليفة ، واغمض عينيه عن الفقراء ؟ •بلى .. فاحتشدنا فقراء ، صعاليك ، مهزومين ، واحتشدنا قتلى ، منفيين ، احتشدنا سجناء ، منبوذين . احتشدنا مضطهدين ، مستضعفين ، احتشدنا وقتلنا البلاذري وافسحنا مجالاً للقادمين . . . . حين قتلنا بعض اجدادنا ، ارتفعت قليلا قاماتنا ، وحين قابلتنا حشود الزنج لم نقل قاماتنا ارتفعت ، فالسواعد السوداء لم تزل نابضة بالدماء ، والصدور الزنجية قاتمة ، لكنها ، الجهة الوحيدة ، والمشرق الجديد للشمس الوحيدة . قالوا : انتم .. يا بيض الزنج !! انتم بيض العبيد قفوا ، فوقنا : تصريح مرورنا بكم اننا نحمل جثة البلاذري واسم بابك الخرمي ، ووجهتنا القرامطة ،ة فاطل حمدان والاثنا عشرة ، هزت الجموع رؤوسها أسفاً ، وأشاروا : " هم أحفادنا " . فاقشعرت الابدان . أيه .. الان ما اكتشفتموه .. ان تقتلوا البلاذري وتنسوا سلاطين الزمان ، لا خير في من يقتل عمره .. ومتاخرا ياتينا بجيفة الاقزام . فتركنا جثته بعيدا وهممنا ان نقتل انفسنا غضبا . فقيل : من تقتلون ؟ قلنا : نقتل العبودية فينا الآن ، فقيل باسف : ايها المقتولون ، لا حق لكم بالقتال ، قفوا .. هنا . عما قليل تاتيكم جيفا مهترئة .. جثث من قتلوكم صغارا . قفوا .. وارفعوا قاماتكم بلا خوف .
صالح صلاح يتسلم رسالة من والده
" اذا الدنيا صباح الله لا يصبحك بالخير واذا الدنيا مساء الله لا يمسيك الا بالويل .. اما بعد يا ابن الملعون فقد مرت اربعة شهور بايامها ولياليها ولم ترسل لنا تعريفة ولا منين رايحة ولا منين جاية وكاننا في الضفة ناكل السمن بالعسل وكانك لا تعرف ما هي احوالنا . هذه ثاني رسالة ، وتحرم عليَ امك اذا كان ما قطعت تصريح وجيتك تشوف وين بتروح بكل هالفلوس . بقول هذه الرسالة الثانية وتكون امك طالق اذا كان كتبت لك بعدها رسائل . ارسل بالعجل كل ما وفرته واذا كان بالك بالزواج فعليك ببنات عمك عندك ، واذا سمعت ان عينك شايحة هون ولا هون رايح اوصي اولاد العيلة عندك يقلعوها بمخرز . والسلام ختام .
الداعي ابوك
صلاح ابو علي
كتب الرسالة على لسانه اخوك احمد .
. . .
الى حضرة الوالد العزيز صلاح الحراث
والى الوالدة الحنونة واخوتي واخواتي قرة عيني . لقد وصلتني رسالتكم بعد شهر من وصولي ابن ابو فخري ما غيره الذي كان عندكم يتفسح في شوارع تل ابيب متنكراً بزي اليهود والذي بلغني انك ذبحت كل ما تربيه الوالدة من دجاج على موائد كرمك السخي له ولعروسته . فعهدي بك مضياف دائماً ان لم يكن بتنك الزيت والزيتون قبالدجاج والزغاليل ومناسف الرز .
بعد شهر من وصوله هنا التقاه صدفة في الشارع وعلم ان لي رسالة عنده . وابو النعيم نسي ان يخبرني في زحمة انشغالاته التي لا تعرفها . فاخبرني صدفة فاخذت من عنوان بيت ابن العم وقضيت نهار الجمعة بكامله افتش عليه . لقد دفعت اجره وانيتات بمصروفك ومصروف اخوتي واخواتي اسبوع عندكم كي استلم رسالتك – سامحك الله- فلما اهتديت الى بيته قالوا لي انه في المسجد . لم يذبحوا لي صيصان طبعاً ولا زغاليل . خرجت انتظره على باب المسجد . ليس المسجد الذي بجانب بيتهم طبعاً . بل مسجد اكبر وعليه الهيبة . كنت اظن انني حالما يخرج المصلون ساعرفه او يعرفني . كيف ولا وهو ابن عمك وابن عمي والده واحد . ولكنني ل اميز من بين كل الذين خرجوا ملتحين ومدشدشين ومقصرين واحدا من الممكن ان اظن انه ابن عمك او ابن عمي . فعدت اطرق بابهم فخرج لي رجل ملتح يلبس دشداشة كدت اظن ساعتها انني اخطأت البيت لولا انه ابتسم ودعاني للدخول . وسلمني الرسالة وسالني ان كنت اصلي او لا اصلي فلما شرحت له ظروف عملي التي لا تعرفها انت ولا يعرفها مخلوق سوى الفئران التي تنام معنا في الحوش راح يشرح لي هات يا أيات يا احاديث وهات يا مسبات منك عندما فتحت الرسالة . لقد سالني ابن عمك عندما قرات رسالتك ان كنت قد ارسلت لك نقود ام لا . فلم ارد عليه خشية ان اجرح شهامتك وكرمك – سامحك الله – فماذا ارسل لك اكثر من عشرين دينار استدنتها دينا من الشباب معي في الحوش . والتي لم تذكر في رسالتك الطيبة الحنونة انها وصلت حتى الىن . واعرف انك حين تستلمها من محمود الشلته ستسدد بها ثمن القهوة والسجائر وبقية مصروفات بيت العزاء الذي فتحته عندما مات ابن ابو قاسم ابن عمك في امريكا . واعرف انك حين تستلمها من ابن الشلتة سوف تغضب ولا يهدأ لك بال لان برهوم اخوه اذا عرف بالمبلغ سيظل يسميك " بالحراث " ولن يحسب لك حساب لا في الصغيرة ولا بالكبيرة في البلد . ولكن ما حيلتي معك وانت لا تسمع لا كلام الوالدة ولا كلامي . هل اخبرك ان ثمن اعلانات التعازي التي نزلت هنا في الجرائد لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره تنفق عليك سنة بكاملها وان تكاليف نقل جثته من امريكا تجعلك مختارا للبلد اذا كنت ما تزال تحلم بالمخترة لماذا تغلب نفسك يا ختيار ونازل فتح بيوت عزاء وفتح بيوت ضيافة وانت لم تشبع ولا اشبعت . أما بخصوص قطعك تصريح زيارة وحضورك فإنني أتمنى أن تعملها لتأتي وترى كل شيء. ولكن قبل أن تتسرع وتجني على من ورائك احسب مليون حساب مع أولاد عمك لكرت الزيارة. فلا تظن أن أولاد العيلة سيستقبلونك بأقواس النصر والدبكة والزفة ولا حدود حدود الدول تدخل فيها متى تشاء .. ربنا يهديك لتعرف أن حذاء محمود الشلته وبسطار برهوم المقطع تسوى كل أفراد حمولتك .أولاد الشلته الفقراء الذين لا تعترف بهم رجال ، وأينما حلوا رجال – صحيح أنهم لا قبل ولا بعد كان لهم دونم ارض في فلسطين ولا غير فلسطين . لكنهم ثوار يناضلون من أجلك ومن اجلي. فهل تفهم . سامحني بهذه فقط ولا تزعل . فقد قضيت كل عمري لم ارفض لك طلب. حتى عندما كنت لا أريد أن اترك سكة الحراثة من بين يدي لم اخرج عن رغبتك بالسفر . وها هي النتيجة . لم تدركها أنت بعد . لكن أصابع يدي المهترية تنبض بها كل لحظة . الأرض يا والدي حين كنت أساعدك في حراثتها كانت كالبنت الصبية ما أن تتزوج حتى تفور . كانت تحت سكة المحراث طرية . وبعد المطر تموج بالخضرة . أما الحيطان التي أظل احف بها هنا من الصباح حتى المساء فإنني سأظل طول عمري أتنقل بينها من حيط إلى حيط ومن بناية إلى بناية بدون أن أرى ما حل بها من بعدي . أي لون أصبحت . أي مخلوقات اندست فيها . كنت عندما احرث معك لا تكاد تمر شهور حتى أذوق طعم البندورة وطعم الخيار والفقوس الذي أصبحت اشتهيه اليوم بعد شهور مرت كأنها سنين من أكل المعلبات والمعلبات . كنت حين يأتي الشتاء اشتهي أكلة العدس مع خبز الطابون المقحمش ورأس بصل . وتوقد لنا النار بنفسك فأشم رائحة الحطب . ولا يكاد يهل الشتاء حتى تشتاق للصيف ولياليه المقمرة فنقضي الليالي أنا والختيارة نتحدث عن الموسم المقبل عن المطر وعن الشجر بأسمائه . كان لكل شجرة اسم. المشمشة المهكفة والزيتونة سعدة التي زرعتها أمك سعدة والرمانة والتوتة . والتينة الخرطمانية كانت مدار حديثنا والصبرة حتى حيايا الأرض كنا نألف خروشتها بين السناسل حتى الحراذين في جحور جذوع الزيتون ، كل شيء كان أجمل . نعم أجمل من كل الصوف الانجليزي والراديوات والساعات والذهب والدنانير التي تتمناها أنت وحدك . سامحك الله . ماذا فعلت بي ؟ ماذا فعلت بابنك في أيامه هنا التي لا يعرف فيها الصيف من الربيع من الشتاء من الزفت ؟ رمل في الأرض وحولي شقق وشوارع وسيارات وإشارات مرور، ماذا افعل هنا ؟ أين اذهب ؟ مع من أتحدث ؟مع القمر المطفي أم السماء التي لا تتبين بها نجمة ؟ وأين يد الوالدة الحنونة تغطيني بالليل ؟ أين أحاديثها وملاعبة أخوتي وخواتي في ليالي الصيف على سطح بيتنا . أين نسمة الهواء الزكية أين ؟؟أما هنا فرائحة عرق الشباب وقنادرهم تزكم أنفاسي . ورائحة المجاري . والفار تجحر بيه يجحر فيك تنش عليه ينش عليك . يتجول في ساحة الحوش دون أن يحسب لك حساب . وكل ما تخشاه أن تستيقظ فتجده يقاسمك الفراش وياما حدثت مع الشباب . عندما اجلس احدث نفسي أقول " الله يسامحك " لا ترسل لي رسائل . لا أريد بعد اليوم رسائلك أنت. فأخي احمد أصبح كبيرا اليوم وأريده هو أن يخبرني بأحوالكم. وقد تفكر الوالدة عندما تعلم بهذا كله بان أعود لكم. سأعود . فقد قررت منذ أول أسبوع غادرتكم فيه ان اعود . لكنني بعد شهور مزقت التصريح . نعم مزقت التصريح الذي لم تحصل عليه إلا بعد أن حنيت راسك لتقبل يد الحاكم العسكري . ولن تكون أبا لي ولا لأحمد إن لم تفكر بعد اليوم بان ترفعه. راسك إلى الأبد . لا أولاد عمومتك المنتشرين على وجه الكرة الأرضية يحنون رؤوسهم ويحنون رقابهم السمينة للأسياد . لا .. فأنت يا صلاح الحراث السيد . أنت السيد بعد اليوم يا أبو صالح وسترفعه بعد اليوم راسك قوياً كسكة المحراث ليشق السماء .
|